![](https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEgwNe6wIcM5tszj8bdfpcLA4XXUrP3JVlD-Jf4WwDWOagPkDYC3AQXV5j_zGejXip5Gec0SHSaoP9ozsO7gnxBfh5auNRqgiSJDUlrvm4LpfkIsCPg-YkK_wkom3A5izDxYD6iRsoDVxHY/s200/UMB+copy.jpg)
ناديت المريض فأقبل عابساً، نظر إلي بازدراء وجلس على كرسي العلاج. كان المريض أبيض البشرة طويلاً نحيلاً وأصلع. وكان جسده يعج بالأوشمة. لم آبه لنظرته ولا لمظهره، ففي نظري لكل مريض الحق في العلاج، ودائماً كنت أضع الأعذار للمرضى، فأنا أعلم أنه لا أحد يحب زيارة طبيب الأسنان.
فتحت ملفه علّني أجد فيه ما يفيدني، فوجدت أنه كان هنا الجمعة الماضية وأن أحد الأطباء قد كتب له وصفة مسكن. سألته سؤالي المعتاد: كيف لي أن أساعدك؟ فأجاب بامتعاض: أحد أسناني يؤلمني. سألته: كنت هنا الجمعة الماضية؟ قال: أجل، ولكنني جئت متأخراً فلم يتسنّ للطبيب علاجي. وبعد الفحص تبين لي أن هذا المريض قد عانى من سرطان في الفك وتعرض للعلاج الإشعاعي في فكه، وأن الضرس الذي يعاني منه يحتاج للخلع.
وبينما أنا اتفحص ملفه طلب مني كوب ماء، أخبرته بأن الماء الوحيد لدينا هو ماء الحنفية إن كان لا يمانع، فوافق. لكنه لم يشرب منه سوى رشفة. أخبرته أنني أحتاج إلى استشارة. حين عدت أخبرته أننا لا نستطيع القيام بالخلع في هذه العيادة وإنما هو يحتاج لجراح فك للقيام بهذه العملية. فنظر إلي بغضب وقال لي أريد أن أكلم مسؤولاً هنا. كنت أشعر أنه غير راضٍ، غير أنني لم أكن أعلم سبب عدم رضاه وكنت مقتنعة بأنني لم أخطئ فلم أتردد لحظة بإحضار أستاذي المشرف على العيادة، ونحن في طريقنا للمريض قلت له توقع أن تسمع شكوى عليّ من مريض غاضب، فضحكنا سويّاً.
وكما توقعت كانت شكوى، فبدأ المريض شكواه قائلاً: لقد جئت الجمعة الماضية وكنت أعاني من ألمٍ شديد، أعلم أنني كنت متأخراً لكن كان حريّاً بالطبيب أن يكون أكثر لطفاً. فقد طلبتُ منه ماء لأشرب، فأحضر لي ماء ساخناً لا يصلح للشرب. أما هذه السيدة اللطيفة - وأشار إلي- فقد تحملت سوء مزاجي وأحضرت لي ماء بدرجة حرارة الغرفة وهذا ما توقعت. أصبت بالذهول حين عرفت أنه ما طلب الماء إلا ليختبرني. فما كنت أتعامل معه إلا كما أتعامل مع أي مريض. بنيّتي الحسنة واهتمامي الكامل.
ذهبت على الفور إلى قسم الجراحة لأضمن للمريض موعداً للخلع. ثم عدت لأصطحبه إلى موعده. ونحن في طريقنا لقسم الجراحة، سألني المريض وقد تغير أسلوبه الحاد إلى أسلوب مؤدب للغاية: أعتذر عن تطفلي، ولكن هناك سؤال خاص يدور في خلدي، فهل يمكنني أن أسأل؟ ترددت قليلاً وأجبته بنعم فقال: بما أنكِ ترتدين هذا الغطاء على رأسكِ، فأنتِ مسلمة؟ فأجبت بنعم. فسأل: وهل تقرأين القرآن؟ فأجبت مبتسمة: كل يوم. فصمت برهةً ثم اعتذر، وقال أنا أتمنى أن يزول كل سوء فهم منتشر عن المسلمين والإسلام في هذا العالم. ثم أسهب في كلامٍ كثير لم أعره انتباهاً. فقد شرد ذهني بالتفكير في سبب اعتذاره.
![](https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEgE_u9DyPJ4G_hybkyXbdBpM__KL0BQxlo0bJceNs-pKVr7AexvB-Ax4bOGXJBWcTUyaERP5nMHDeFUVoembURo_UBy9OuUOQMd2Y6YKdBDIarz1h7wLfzGOnVDzrEsgNxHQ7Bmr1vkjfo/s200/signature.png)
حينها فقط أدركت لم كان يرمقني بنظرات الازدراء تلك، وحينها فقط أدركت أن إتقاني لعملي قد وفر علي الكثير من الكلام الذي ربما لو كنت قلته ما أقنعت هذا الرجل بشيء.
هكذا نرتقي أعزائي... بأخلاقنا، وإخلاصنا لعملنا...